أذكر قبل أكثر من عشر سنوات، في مطلع التسعينات الميلادية ما يشبه الثورة التقنية التي أخذت تعم المؤسسات الرسمية، خاصة الجامعات، وأعني بها استبدال الحاسب الآلي بالورق، في تخزين البيانات وإدارتها، حيث يتم ربط المؤسسة بكامل مرافقها ومهماتها بشبكة موحدة، تتيح سهولة التعامل مع البيانات وموثوقيتها، وكانت دفعتنا من الدفعات الأول التي تدار أمورها في الجامعة بوسائط التقنية. وكان يخطط لذلك الأمر وقتها أن يسهل أمور إدارة هذه المؤسسة الضخمة، جامعة الملك عبد العزيز، الجامعة الوحيدة التي تدرس بنظام الانتساب في المملكة، مما يضاعف مهماتها بعدد المنتسبين إليها. وقد حدث على مستوى النظام أن قلت احتمالات الأخطاء الفردية، كما قلت المساحات المخصصة للورق والمعلومات في ذهن الموظف فأتيح له الوقت والطاقة ليفكر ويطور نفسه وينجز. واستبشرنا الخير في أن يخف تذمر الموظفين، وتنجلي تجعدات وجوههم العابسة، فيرتفع نصاب الموظف السعودي في أخلاقيات العمل، والتعاطي مع العملاء. لكن شيئا من هذا لم يحدث بل وجد كثير من الموظفين وقتا أكثر للتهرب من مسؤولياتهم، وللمزيد من العبوس والتجهم اللذين لا يشتتهما الانشغال بمؤشر الشاشة الالكترونية، وقد ظللنا نقف في طابور طويل على مرأى من موظفات التسجيل، لساعات، وهن يتعاطين الكلام والمزاح، والحر يتمشى على ظهورنا دون أن ننجز مهماتنا. ثم بدأ الوجه الأكثر قبحا للتقنية يظهر، فهي على الرغم من التسهيلات التي تقدمها، لا يمكن تصحيح أخطائها، أو معالجة البيانات التي تدخلها، وكأنها أبو شهاب في باب الحارة «شكلين ما تحكي»، وكان هذا ينسب لجدة استخدامنا للأجهزة، وحداثة تعرفنا بها. وقد حدث لزميلات أن أصدر النظام لهن نتائج نجاح في مواد لم يدرسنها، وحدث العكس مع غيرهن، فصدرت درجات دون معدل النجاح الأدنى، ولهذا كنا نصلي الاستخارة سبعا قبل أن يقف أحدنا في الطابور ليضيف مادة أو يحذفها، فقد يجتمع عليه (النحسان): ضيق خلق الموظف، وقدسية الجهاز، فيحذف الطالب برأسه من الجدول، ويفوت عليه سنة دراسية، وساعتها ما من شفيع.
ومرت عقود من العهد الشهابي، وتسارعت النهضة التقنية في البلاد، فلم يعد هناك طفل لا يتقن لغة الحاسب، ولم يعد هناك عذر لأي تخلف تقني في ضوء المعطيات الحديثة المتاحة للجميع للتعلم والتميز، فكيف نفسر بقاء الأمر على حاله في مؤسساتنا؟ لم نلحظ أي تحسن يذكر، بل تطور الأمر لتكون التقنية عقبة في إنجاز الأمور، فكم من مرة يدخل أحدنا بطاقة الصراف في جهاز الصرف الآلي، ويسحب مبلغا من المال، فلا يخرج المبلغ، ولا يمكن استرجاعه إلا بعد أسابيع؟ ويضطر للإقتراض لحين استرجاع ما فقده. وحين يحدث أي طارئ لجهاز من الشبكة الموحدة للصرافة الآلية تتعطل الشبكة بكاملها، وكأنما الشبكة الموحدة صممت لتعميق الأخطاء ومضاعفة مساحاتها. والحال نفسه غالبا مع كل الشبكات المستعملة في مختلف مؤسساتنا، لكني لم أتوقع أن يظل الأمر بالحجم نفسه في تأثير التقنية على مستقبل إنسان ما، حتى اطلعت على ما يحكيه المتعاملون في ديوان الخدمة المدنية، ففي هذه المؤسسة التي تتحكم بمصير ملايين الشباب الباحثين عن العمل، لا زالت التقنية في طور بدائي، رغم محاولة المسؤولين توظيفها بشكل يحل الأزمة الكبرى في البلاد، وهي الحصول على فرصة عمل وفق تنافس شريف لا يعيقه الفساد الإداري. حيث يتم التقديم للوظائف بواسطة الانترنت، وتتم المفاضلة على أساس نقاط موزعة على معدل التخرج، وسنوات الخبرة، وأقدمية التخرج، ويدخل المتقدم بياناته بنفسه، لكنه في حال الخطأ لا يمكن تصحيح خطئه، وبناء على هذا قد يفقد دوره في التعيين للعام الحالي، وبما أن كل عام يلغي بيانات العام السابق ويتطلب من المتقدمين التقديم من جديد فخسارته ستتضاعف بقدر زيادة عدد المتقدمين للوظائف كل عام.
يعجبني جدا أن أرى النصف الممتلئ من الكأس، لكني ألحظ أن الإعداد التقني للموظفين خاصة المختصين بالبرمجة والمتعاملين بها منهم ليس الإعداد الكافي، بحيث يستطيع الواحد منهم مواجهة أي مشكلة تطرأ، من دون أن يجد نفسه محرجا، وينتهي إلى التخلص من الأمر بحرمان إنسان من فرصته في بناء مستقبل كريم - مثلا- أو يترك العملاء ينتظرون بالساعات.
asma@alzahrani.com
ومرت عقود من العهد الشهابي، وتسارعت النهضة التقنية في البلاد، فلم يعد هناك طفل لا يتقن لغة الحاسب، ولم يعد هناك عذر لأي تخلف تقني في ضوء المعطيات الحديثة المتاحة للجميع للتعلم والتميز، فكيف نفسر بقاء الأمر على حاله في مؤسساتنا؟ لم نلحظ أي تحسن يذكر، بل تطور الأمر لتكون التقنية عقبة في إنجاز الأمور، فكم من مرة يدخل أحدنا بطاقة الصراف في جهاز الصرف الآلي، ويسحب مبلغا من المال، فلا يخرج المبلغ، ولا يمكن استرجاعه إلا بعد أسابيع؟ ويضطر للإقتراض لحين استرجاع ما فقده. وحين يحدث أي طارئ لجهاز من الشبكة الموحدة للصرافة الآلية تتعطل الشبكة بكاملها، وكأنما الشبكة الموحدة صممت لتعميق الأخطاء ومضاعفة مساحاتها. والحال نفسه غالبا مع كل الشبكات المستعملة في مختلف مؤسساتنا، لكني لم أتوقع أن يظل الأمر بالحجم نفسه في تأثير التقنية على مستقبل إنسان ما، حتى اطلعت على ما يحكيه المتعاملون في ديوان الخدمة المدنية، ففي هذه المؤسسة التي تتحكم بمصير ملايين الشباب الباحثين عن العمل، لا زالت التقنية في طور بدائي، رغم محاولة المسؤولين توظيفها بشكل يحل الأزمة الكبرى في البلاد، وهي الحصول على فرصة عمل وفق تنافس شريف لا يعيقه الفساد الإداري. حيث يتم التقديم للوظائف بواسطة الانترنت، وتتم المفاضلة على أساس نقاط موزعة على معدل التخرج، وسنوات الخبرة، وأقدمية التخرج، ويدخل المتقدم بياناته بنفسه، لكنه في حال الخطأ لا يمكن تصحيح خطئه، وبناء على هذا قد يفقد دوره في التعيين للعام الحالي، وبما أن كل عام يلغي بيانات العام السابق ويتطلب من المتقدمين التقديم من جديد فخسارته ستتضاعف بقدر زيادة عدد المتقدمين للوظائف كل عام.
يعجبني جدا أن أرى النصف الممتلئ من الكأس، لكني ألحظ أن الإعداد التقني للموظفين خاصة المختصين بالبرمجة والمتعاملين بها منهم ليس الإعداد الكافي، بحيث يستطيع الواحد منهم مواجهة أي مشكلة تطرأ، من دون أن يجد نفسه محرجا، وينتهي إلى التخلص من الأمر بحرمان إنسان من فرصته في بناء مستقبل كريم - مثلا- أو يترك العملاء ينتظرون بالساعات.
asma@alzahrani.com